بعد أحداث الفتنة الكبرى انقسم بعض الناس بين أنصار لسيدنا علي y وهم الشيعة، وناقمين عليه وهم الخوارج.
إذ نجد الشيعة، والذين بدءوا أصلًا كحزب سياسي، لا فرقة دينية، نجدهم يذهبون إلى أن التشيع عقيدة دينية، ويستندون في ذلك على أحاديث أكثرها كذب مختلق، وبعضها صحيح كحديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى.
ولكنهم يؤوِّلونها تأويلًا باطلًا مناسبًا لمعتقداتهم، ومنهم نشأت العديد من فرق الغلاة، والذين ذهب بعضهم إلى تأليه سيدنا علي مثل السبئية أتباع عبد الله ابن سبأ اليهودي مشعل الفتنة.
ومن غلاة الشيعة الذين أفسدوا في الإسلام الإسماعيلية، وهم من الشيعة الإمامية الذين يؤمنون بوجود اثني عشر إمامًا، ابتداء بعليٍّ y حتى يصلوا إلى اثني عشر إمامًا، كما يبالغون في شتم الصحابة وسبّهم، ويقولون بوجود التحريف في القرآن الكريم، ويحرفونه بوضع اسم سيدنا عليٍّ أو كلمة الإمام في بعض الآيات.
إلا أن هناك طائفة معتدلة من الشيعة الإمامية، هم الزيدية أتباع زيد بن علي زين العابدين بن الحسن بن علي، وهؤلاء يقولون بصحة خلافة أبي بكر وعمر، من باب جواز المفضول مع وجود الفاضل.
وعلى عكس الفرق السابقة فقد عرف التاريخ الإسلامي فرقًا كفّرت سيدنا عليًا، واستباحت دماء المخالفين من المسلمين، مع عفوهم عن غير المسلمين، وهم الخوارج الذين انقسموا إلى عدد من الفرق أشهرها وأبقاها الإباضية الذين ما زالوا في (عُمان) حتى اليوم، وهم من معتدلي الخوارج إذ لا يلعنون عليًا، ولكن ينكرون قبوله للتحكيم، ويعتبرون بيعته باطلة.
أما عقيدة أهل السنة والجماعة، فهي أنّ عليّ بن أبي طالب y أحد الصحابة الكرام وأحد العشرة المفضلين بالجنة، وأنهم (أي أهل السنة والجماعة) يحبون آل بيت النبيبلا إفراط ولا تفريط، يعلمون أنهقال: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي.
يقول ابن تيمية:
وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت النبيويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله.
وقال ابن كثير: ولا ننكر الوصاية بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض.. ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة، فكانوا من أهل الحق، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين.
قضاؤه:
عن أنس y عن النبيأنه قال: "أَقْضَى أُمَّتِي عَلِيٌّ".
ولا غرو أن صار علي بن أبي طالب أعظم قاضٍ في الأمة الإسلامية، يبحث عن العدل، ويجتهد فيهديه الله إليه، وينير بصيرته، فيخرج الحكم العادل من شفتيه عليه نور الحق وبهاؤه.
وقد كان ذلك بشارة من رسول الله، فقد قال عليّ y: بعثني رسول اللهإلى اليمن قاضيًا، وأنا حديث السن، فقلت: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء. قال: "إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي لِسَانَكَ، وَيُثَبِّتُ قَلْبَكَ". قال: فما شككت في قضاء بين اثنين. وفي رواية: "إِنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ لِسَانَكَ، وَيَهْدِي قَلْبَكَ". قال: ثم وضع يده على فمه.
ومن ساعتها والقصص تتواتر عن عدل عليٍّ، ونفاذ بصيرته في حكمه وقضائه، ومن أمثلة ذلك ما روى حنش عن عليٍّ y قال: بعثني رسول اللهإلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زُبية (حفرة) للأسد؟ فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل، فتعلق بآخر، ثم تعلق رجل بآخر، حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر.
فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم عليّ على تفيئة ذلك (إثر ذلك) فقال: تريدون أن تقاتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ، إني أقضي بينكم قضاءً إن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا النبي، فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، وللثالث نصف الدية.
فأبوا أن يرضوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال: أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ. واحتبي، فقال رجل من القوم: إن عليًا قضى بينا، فقصوا عليه، فأجازه رسول الله.
فهذه القصة تبرز حكمة سيدنا عليٍّ وذكاؤه، ومن لطيف ما يروى في ذات المعنى: جلس اثنان يتغديان، ومع أحدهما خمسة أرغفة، والآخر ثلاثة أرغفة، وجلس إليهما ثالث، واستأذنهما في أن يصيب من طعامهما، فأذنا له، فأكلوا على السواء، ثمّ ألقى إليهما ثمانية دراهم، وقال: هذا عوض ما أكلت من طعامكما، فتنازعا في قسمتها فقال صاحب الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة، قال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء.
فترافعا إلى عليّ y فقال لصاحب الثلاثة: أقبل من صاحبك ما عرض عليك، فأبى، وقال: ما أريد إلا مرَّ الحقّ، فقال عليّ: لك مر الحق درهم واحد، وله سبعة، قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: لأن الثمانية أربعة وعشرون ثلثًا، لصاحب الخمسة خمسة عشر ولك تسعًا، وقد استويتم في الأكل، فأكلت ثمانية، وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية، وبقى له سبعة، وأكل الثالث ثمانية، سبعة لصاحبك وواحد لك. فقال: رضيت الآن.
ولم يكن عليّ في قضائه يجامل ويحابي، ولا يميز عربيًا على أعجميًا، فقد أتته امرأتان تسألانه، عربية ومولاة لها، فأمر لكل واحدة منهما بمكيال من طعام، وأربعين درهمًا، فأخذت المولاة الذي أُعْطيت وذهبت.
وقالت العربية: يا أمير المؤمنين تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ فقال لها عليّ y: إني نظرت في كتاب الله عز وجل، فلم أر فيه فضلًا لولد إسماعيل على ولد إسحاق عليهما الصلاة والسلام.
بل لم يكن يجامل محبيه وأنصاره، فقد جاء جعد بن هبيرة إلى عليٍّ رضي الله عنهما، فقال: يا أمير المؤمنين، يأتيك رجلان أنت أحب إلى أحدهما من نفسه، أو قال: من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا؟
فلهزه (ضربه على صدره) عليّ رضي الله عنه، وقال: إن هذا شيء لو كان لي فعلت، ولكن إنما ذا شيء لله.
ولم يكن غضبه يدفعه لمخالفة السنة في القضاء، بل كان همّه إلزام الناس بها وهدايتهم إليها فقد بلغ عمر بن الخطاب أنّ امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما، ففرق بينهما وعاقبهما، وقال: لا تنكحها أبدًا.
وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس، فبلغ عليًا، فقال: يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟
فقال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدةً كاملةً ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء. فبلغ ذلك عمر، فخطب الناس فقال: أيها الناس رُدُّوا الجهالات إلى السنة.
رضي الله عن عليٍّ الناصح الأمين، الذي ينير السبيل بكلماته، ويقطع الشك باليقين، ويصدق النصح للمسلمين عامتهم وخاصتهم، فقد استشار سيدنا عمر رضي الله عنه أصحابه في البساط الذي غنمه المسلمون يوم المدائن.
وهو بساط كسرى، وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه فكأنهم في رياض، بساط مساحته ستون ذراعًا في ستين، أرض مفروشة بالذهب، وموشي بالفصوص.
وفيه رسوم ثمار بالجواهر، وورقها بالحرير، وفيه رسوم للماء الجاري بالذهب، وكانت العرب تسمية القطف، قال عمر: أشيروا علي فيما أصنع في هذه القطيفة- أعني البساط-؟ فقالوا: رأيك أعلى. فقال علي y: لم يدخل عليك جهل ولا تقبل شكا، وإنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، ولبست فأبليت، وأكلت فأفنيت.
وهذا من جوامع الكلم في الزهد، فقال عمر: فوالله لقد صدقني يا أبا الحسن. فقطعه، فقسمه بين
الناس، فأصاب عليًا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفًا، وما هي بأجود تلك القطع.
المصدر: موقع قصة الإسلام